التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
مات السلطان محمد الفاتح في عام 1481م، ويختلف المؤرِّخون في مسألة وفاته ما بين أنَّه مات ميتةً طبيعيَّة، أو أنَّه مات مسمومًا، فما سرُّ هذه الوفاة؟
انتهى فصل الشتاء، وأقبل ربيع عام 1481م، وكعادة السلطان محمد الفاتح فإنَّه لا يركن للهدوء أبدًا، فكانت الإعدادات العسكريَّة على أشدِّها، وكان من الواضح أنَّه يُعِدُّ البلاد لحملةٍ كبيرة سيكون لها آثارٌ ضخمةٌ في مستقبل الدولة العثمانيَّة.
غادر السلطان محمد الفاتح قصره في إسطنبول في 25 إبريل 1481م[1]، وعبر المضايق إلى الناحية الشرقيَّة منها، ووصل إلى أسكودار، ثم أمر بتحرُّك الجيش، وكان ذلك على الأغلب في أوَّل مايو[2]، وفي يوم 3 مايو، في عصر ذلك اليوم[3]، سقط فجأة الفارس العظيم، والقائد المهيب، السلطان محمد الفاتح، وصعدت روحه إلى بارئها!
هكذا مات السلطان الذي غيَّر اللهُ به تاريخَ أوروبا والمسلمين..
هكذا مات السلطان المهيب وهو في التاسعة والأربعين من عمره!
مات في أرض الجهاد، وهو منطلقٌ إلى حملةٍ كبيرةٍ لإعلاء كلمة الله.
ما سرُّ هذه الوفاة المفاجئة؟!
ينقسم المؤرِّخون في هذا الصدد إلى فريقين؛ فيرى الفريق الأوَّل أنَّ الفاتح مات ميتةً طبيعيَّة؛ حيث كان كثير المرض، وخاصَّة بالنقرس، بينما يرى الفريق الثاني أنَّ الفاتح مات مسمومًا، وإنْ كان هذا الفريق الثاني ينقسم على نفسه في تحديد هُويَّة القاتل!
والواقع أنَّني أميل بقوَّةٍ مع الرأي الأوَّل القائل إنَّ الفاتح مات ميتةً طبيعيَّةً بعيدةً عن شبهة القتل؛ فالمعروف أنَّ الفاتح في سنواته الأخيرة كان شديد المرض[5]،[6]، وكانت هذه السنة الأخيرة في عمره من أشدِّ سنوات مرضه، وكانت بدايات تفاقم مرضه في شهر سبتمبر 1480م عندما عاد كديك أحمد باشا من أوترانتو فوجد السلطان في حالة إعياءٍ شديدة[7]، وكان السلطان يُعاني كما هو معروفٌ من النقرس، وهو مرضٌ مزمنٌ تكون له بعض حالات النشاط الزائد الذي يُوقِع المريض فجأةً في حالاتٍ حادَّةٍ من الألم، وله كما هو معروفٌ طبِّيًّا آثارٌ على كافَّة أعضاء الجسم.
نقول هذا الكلام لأنَّنا نعلم أنَّ الفاتح يوم خرج من قصره يوم 25 إبريل 1481م كان في صحَّةٍ جيِّدةٍ نسبيًّا تسمح له بقيادة جيشه، وإلَّا لكلَّف أحد وزرائه بالمهمَّة، ولكن بعد خروجه بأيَّام فاجأته حالة حادَّة من حالات المرض فبدأ المعاناة الأخيرة.
يُؤيِّد هذه الميتة الطبيعيَّة أنَّ المصادر الأولى التي أرَّخت لحياة الفاتح لم تذكر شيئًا عن أيِّ محاولات اغتيالٍ للسلطان[8].
ومع ذلك فقد تبنَّى مؤرِّخون آخرون فكرة تسميم السلطان الفاتح قبيل موته[9]، ولكن اختلفوا في تحديد هويَّة القاتل؛ فنسبها بعضهم إلى طبيبٍ فارسيٍّ اسمه حميد الدين اللاري [10]، بينما جعل آخرون أنَّ طبيبه المسلم يعقوب -الذي هو من أصلٍ يهودي، واسمه قبل إسلامه ميسترو لاكوبو- هو المسئول عن عمليَّة الاغتيال[11]، بينما لم يتردَّد المؤرخ فرانز بابينجر في أن يُشير بأصابع الاتهام إلى بايزيد ابن السلطان، مدَّعيًا أنَّ هذا قد حدث لخوف بايزيد من إعطاء ولاية العهد للابن الأصغر چم [12]!
وليس هكذا ينبغي تحليل الأمور، خاصَّةً مع الأحداث التاريخيَّة التي تتعلَّق بأسماءٍ معيَّنة، وأفرادٍ بذواتهم؛ فالعدل والإنصاف يقتضي ألَّا تُلقَى التُّهم على شخصيَّاتٍ بعينها إلَّا في وجود دليلٍ حاسم، وإلَّا فهؤلاء المتَّهمون بُرءاء بلا جدال، وهذا يشمل بايزيد ابن السلطان، كما يشمل الأطباء وغيرهم ممَّن تدور حولهم الشبهات حتى لو كانوا من أصولٍ غير مسلمة، أو لم يكونوا مسلمين من الأساس؛ فالعدل ينبغي أن يكون مطلقًا، ولا يُفرِّق بين عرقٍ وعرق، أو بين دينٍ وآخر.
يبني مَنْ يفترض تسميم السلطان استدلالاته على روايةٍ عند عاشق زاده ذكر فيها أنَّ الأطباء أعطوا السلطان «شرابًا مفرِّغًا»، وهذا هو الذي أدَّى إلى وفاته، وترجم المترجمون الكلمة التركيَّة الواصفة لهذا الدواء ترجمةً خاطئة، فعَدُّوها سُمًّا، وبذلك يكونون قد نسبوا بداية الاتهام إلى المؤرِّخ عاشق زاده، مع أنَّ الدواء معروف، ويهدف إلى تفريغ المعدة؛ أي أنَّه دواء مقيئ فقط[13].
ويدعم مَنْ يفترض فكرة التسميم رأيه بأنَّ الإنكشاريَّة قتلت الطبيب اليهودي الأصل يعقوب بعد معرفتهم بموت السلطان، ولكن هذا في حدِّ ذاته ليس دليلًا؛ لأنَّ الرواية التي ذكرت القتل لم تذكر محاكمةً له حتى يتبيَّن الحق من الباطل في أمره[14]، بالإضافة إلى أنَّ الروايات بحقِّ هذا الطبيب متضاربة؛ حيث ذكرت بعض الروايات أنَّه استمرَّ في عمله ولم يُقتل أو يُحَاكم، بل ظلَّ طبيبًا في عهد بايزيد[15]، ولا يُعْقَل أن يُتَّهم مثل هذا الاتهام ويستمرُّ في عمله آمنًا، بالإضافة إلى أنَّ هذا الطبيب كان هو المختصُّ بشئون الفاتح الصحِّيَّة منذ طفولته، وكان السلطان يُقرِّبه كثيرًا، وقد أنعم عليه بلقب باشا[16]، وليس من المنطقي أن يكون قريبًا من السلطان لمدَّةٍ تزيد على ثلاثين سنة ولا يرتاب الفاتح في أمره، كما أنَّه قد أُتيحت له فرصٌ كثيرةٌ في هذه السنوات لاغتيال الفاتح، ولكنَّه لم يفعل، والأقرب أن يكون مُؤتَمَنًا بحق، وليس في محلِّ الشبهة، ولهذا فإنَّ الإنصاف يقتضي ألَّا يُتَّهم الأطباء بالقتل؛ إنَّما أقصى ما هنالك أن يكون الدواء قد أُعطِي بطريق «الخطأ» لا العمد إن كان له علاقةٌ بالموت[17]، أو أن يكون الدواء لا علاقة له بالموت أصلًا.
وأحيانًا يستند الداعمون لفكرة التسميم على أنَّ المرض الذي كان يُعاني منه الفاتح، وهو النقرس، ليس مرضًا قاتلًا؛ إنَّما هو مرضٌ يُصيب المفاصل، ويُؤدِّي إلى إعاقةٍ في الحركة ولكن ليس الوفاة، وهذا في الواقع تحليلٌ غير دقيق، ولا علاقة له بالمعلومات الطبِّيَّة الصحيحة؛ فالنقرس مرتبطٌ إلى درجةٍ كبيرةٍ بحدوث السكتات الدماغيَّة، وبحدوث الارتفاع الشديد في ضغط الدم، وكذلك بحدوث النوبات القلبيَّة، وكلها مضاعفات قاتلة، وتُحْدِث الموت المفاجئ[18]، ولا يُستبعد أبدًا أن تحدث كلَّ هذا المضاعفات مع السلطان الفاتح، خاصَّةً إذا ما أخذنا في الاعتبار الضغط العصبي الزائد الذي يتعرَّض له في حياته، وخاصَّةً في مثل هذه الحملات، وهذا الضغط في حدِّ ذاته أحد عوامل الخطورة التي تزيد من فرصة المضاعفات الكبيرة، فضلًا عن أنَّ العلاج الصحيح للنقرس لم يكن معروفًا في هذا الزمن.
نخلص من هذا التحليل إلى أنَّ الأقرب إلى الصواب، والأصلح وفقًا لقواعد القرآن والسُّنَّة، وتبعًا لقواعد القانون العادل، هو أنَّ وفاة الفاتح كانت طبيعيَّة، ومفاجئة، وأنَّه لا داعي لافتراض احتمالاتٍ لا ينبني عليها عملٌ كبير، خاصَّةً أنَّ هذه الفكرة لم تكن متداولة في الأيَّام التي مات فيها الفاتح العظيم.
حُمِل السلطان المعظَّم محمد الفاتح إلى إسطنبول، وفي يوم 22 مايو1481م، تم حمله إلى مقبرته التي بناها بنفسه، إلى جوار مسجده بإسطنبول[19]،[20].
أخيرًا آن لهذا الجسد المرهق أن يستريح!
إنَّها رحلة معاناةٍ طويلةٍ تجاوزت الثلاثين سنة..
معارك كثيرة.. وأمراض شديدة.. وجهاد وسفر.. وأعداء وسهر..
ولكن لا بُدَّ لكلِّ رحلةٍ -مهما كانت شاقَّة- من نهاية..
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185].
هكذا انتهت حياة الرجل الذي أعزَّ الله به أمَّة الإسلام عقودًا متتالية، بل ثبَّت الله به أركان الأمَّة لعدَّة قرون، وليس عجيبًا أن يكون موته يوم احتفالٍ عند أعداء الأمَّة؛ فلقد كانت حياته كابوسًا مزعجًا لهم[21].
[1] أوزتونا، 1988م صفحة 1/176.
[2] Rogerson, 2009, p. 109.
[3] أوزتونا، 1988م صفحة 1/176.
[4] Finkel, 2005, p. 128.
[5] Freely, 1999, p. 28.
[6] القرماني، 1992م صفحة 3/36.
[7] Babinger, 1978, p. 393.
[8] آق كوندز، وآخرون، 2008م صفحة 151.
[9] Babinger, 1978, p. 404.
[10] Crowley, 2005, p. 254.
[11] أوزتونا، 1988م صفحة 1/177.
[12] Babinger, 1978, pp. 404-405.
[13] حرب، 1994م صفحة 56.
[14] أوزتونا، 1988م صفحة 1/177.
[15] آق كوندز، وآخرون، 2008م صفحة 151.
[16] Rogerson, 2009, p. 109.
[17] Freely, 1999, p. 28.
[18] Konshin, 2009, pp. 56-58.
[19] Fisher, 1948, p. 19.
[20] أوزتونا، 1988م الصفحات 1/177, 185.
[21] هذا المقال من كتاب "قصة محمد الفاتح" للدكتور راغب السرجاني، ويمكنك شراء الكتاب من خلال صفحة دار أقلام أو الاتصال برقم 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك